تحفة الكرام - تاريخ مكة

تحفة الكرام

تأليف : العلاّمة السيّد محمّد مهدي بحر العلوم

تقديم : محمّد رضا الأنصاري

     «تحفة الكرام في تأريخ مكّة والمسجد الحرام» رسالة نافعة، وهي مما أتحفنا بها يراع أحد أعلام المسلمين وأئمة الدين في القرن الثاني عشر للهجرة، صاحب الحسب النبوي الشريف، والنّسب العلوي المنيف، ألا وهو العلاّمة السيد محمد مهدي بن مرتضى بن محمد البروجردي الطباطبائي. ولد رضوان الله تعالى عليه سنة 1155هـ  (وفي رواية سنة 1154هـ ) بمدينة كربلاء، عند مشهد السبط الشهيد الحسين بن علي(عليه السلام)، في اسرة علميّة دينية، فوالده السيد مرتضى كان يعدُّ من أعلام كربلاء وأفاضل اُسرته، وللمترجم له علاقات مصاهرة ونسب باُسرة العلامة المجلسي(رحمه الله)(المتوفى عام 1110هـ ) وكان يعبّر عن المجلسي الأوّل الشيخ محمد تقي بالجدِّ وعن المجلسي الثاني الشيخ محمد باقر بن محمد تقي بالخال. تلّقى المترجم له الدروس أوّلاً في مسقط رأسه عن والده وعن الشيخ يوسف البحراني ( صاحب «الحدائق الناضرة» المتوفى 1184هـ ) ثمّ هاجر إلى النجف الأشرف، وحضر دروس أعلامها وهم الشيخ مهدي بن محمد الفتوني العاملي ( ت 1183هـ ) ، والشيخ محمد تقي الدورقي ( ت / 1186هـ )، والشيخ محمد باقر هزارجريبي (ت/1205هـ )، ثمّ عاد إلى كربلاء وتتلمذ على كبير علماء الشيعة آنذاك وهو الآغا محمد باقر الشهير بالوحيد البهبهاني ( ت / 1205هـ ) فلازمه مدّة وصار من أبرز تلامذته وموضع اعتماده ، وحينما عجز الوحيد عن التدريس لكبر سنه أوصى تلميذه النبيه بأن يعود إلى النجف ويؤسس حوزة دراسية لتربية الطلاب، وفعلاً عاد السيد إلى النجف الأشرف فحلّق حوله جماعة استفادوا من نمير علمه، وصاروا أعلاماً ومنارات للعلم والتقوى اهتدى بهم الناس، وكان منهم السيد حيدر العاملي، الشيخ جعفر بن الشيخ خضر الجناجي (صاحب كشف الغطاء) السيد جواد العاملي (صاحب مفتاح الكرامة)، الشيخ أبو علي الحائري (صاحب منتهى المقال في علم الرجال) والمولى أحمد النراقي، والسيد محمد الطباطبائي المجاهد، السيد محمد الخوانساري، الشيخ أسد الله التستري ( صاحب المقابس )، الميرزا محمد النيسابوري الأخباري، حجة الإسلام السيد محمد الشفتي الأصفهاني، الشيخ محمد علي الأعسم، السيد دلدار علي الهندي وآخرون.

     سافر السيد سنة 1186هـ  إلى خراسان فسكن 8 سنوات بجوار مشهد الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام)، فأفاد واستفاد ، وخلال هذه الفترة حضر عند الميرزا مهدي الشهيدي الخراساني ودرس عنده الفلسفة الإسلامية، ولمواهبه العلميّة ونبوغه لقبه شيخه الخراساني بلقب (بحر العلوم) فصار يعرف بعده ، واشتهرت اُسرته بهذا اللقب.

     توجه بحر العلوم سنة 1192هـ  صوب الديار المقدسة لأداء فريضة الحجّ، فمكث في مكّة (زادها الله تشريفاً وتعظيماً ) سنتين ودرّس خلالها الفقه على المذاهب السنّية الأربعة في المسجد الحرام، ولعلّ هذه الرسالة من ثمرات تلك السفرة، كما تنسب له فكرة بناء المآذن الأربع في أطراف الحرم; لتسهيل طواف الطائفين حول البيت.

     عاد بحر العلوم إلى النجف الأشرف، وتصدّى زعامة الإمامية، فصار مرجعها الأوّل، ومفتيها الأكبر وقد أسدى خلال فترة زعامته خدمات جليلة للطائفة المحقّة وللدين الإسلامي الحنيف ذكرها المترجمون لسيرته. وقد مدحه كلّ من تصدى لترجمة حياته وسيرته من المعاصرين له ومن يليهم، ويكفي للدلالة على علو مقامه ماذكره صاحب ( المواهب السنية في شرح الدّرة الغروية) في ترجمة السيد حيث يقول:«كان ركناً من أركان هذه الطائفة وعمادها، ومن أورع نسّاكها وعبّادها، وهو بحر العلوم المؤيّد بتأييدات الحيّ القيّوم، محيي مدارس الرسوم، لسان المتأخرين، كاشف أسرار المتقدمين، متمّم القوانين العقلية، مهذّب القواعد والفنون النقليّة، علاّمة العلماء الأعلام، فخر فقهاء الإسلام، وهو الحبر العلاّم، والبحر القمقام، والأسد الضرغام، مفتي الفرق، الفاروق بالحقّ، حامي بيضة المذهب والدين، ماحي آثار المفسدين بترويج مراسم أجداده الطاهرين، نور الهداية في الظُّلمَ..».

     توفي السيد رحمه الله في السابعة والخمسين من عمره الشريف في شهر رجب من سنة 1212هـ  ودُفن في مقبرة كان قد أعدّها لنفسه في حياته في الزاوية الشمالية الغربية من مسجد الشيخ الطوسي (رحمه الله)في النجف الأشرف بجوار مرقد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وعلى مسافة أمتار من قبر شيخ الطائفة الشيخ محمد بن الحسن الطوسي ( المتوفى 460هـ ) رحمه الله.

مؤلفاته:

     كان سيدنا المترجم له على عظمته في العلم والتحقيق، قليل التأليف لعدة اُمور: لانشغاله بالتدريس والزعامة الدينية، ولكثرة أسفاره في سبيل أداء رسالته الإسلامية، ولشدة احتياطه ودقّة مسلكه، وبالرغم من هذا وذاك فقد احتفظ التأريخ العلمي له بيسير من المؤلفات هي:

     1 ـ كتاب المصابيح في العبادات والمعاملات في الفقه، وقد أكثر النقل عنه الفقهاء والمحققون منذ عصره.

     2 ـ الدّرة النجفيّة: وهي منظومة في بابي الطهارة والصلاة من الفقه يتجاوز عدد أبياتها الألفين.

     3 ـ مشكاة الهداية: وهي منثور الدرة النجفيّة، ولم يبرز منها إلاّ كتاب الطهارة.

     4 ـ الفوائد الرجالية في علم الرجال مطبوع في 4 مجلدات.

     5 ـ 23 ـ مجموعة رسائل في مواضيع مختلفة من الفقه والاُصول والحديث والكلام والأدب والشعر وغيرها.

     24 ـ تحفة الكرام في تأريخ مكّة والمسجد الحرام. وهو هذا الذي نحنُ بين يديه حيث استعرض فيه تأريخ المشاعر المقدسة بدءاً بالكعبة الشريفة، حيث أسهب في تأريخ بنائها منذ هبوط آدم(عليه السلام) وحتى عصر الرسالة المحمدية(صلى الله عليه وآله) مروراً ببناء إبراهيم الخليل (عليه السلام) ومن بعده، ومايتعلق بها من الأركان والحِجر، والحَجر الأسود، والباب، والملتزم، والميزاب، والمستجار، والكسوة، والحطيم، وغيرها، فالمسجد الحرام، والمطاف، وزمزم، والأبواب، والمآذن، والمسعى، ومقام إبراهيم، والحرم المكّي، ومدينة مكّة، وما بها من المواقع الدينية الأثرية كمولد النبيِّ(صلى الله عليه وآله) وبيت خديجة، ومولد السيدة فاطمة الزهراء، والحجون، وشعب أبي طالب (عليه السلام) وغيرها.

     وقد أطال البحث عن كلّ واحد من هذه المشاعر المقدسة والمواقع المباركة، فاستعرض أقوال المؤرخين وأصحاب السير والحديث، فوافق بعضهم وناقش البعض الآخر وأبرز تهافت أقوالهم وفقاً للمنطق التأريخي الصحيح عنده، وهكذا قدّم مجموعة نافعة لمن يحب الوقوف على تأريخ تلك البقعة الشريفة، ومامرّ بها من تطورات خلال عشرات القرون، فشكر الله سعيه وأجزل له الثواب.

     استفدنا في تصحيح هذه الرسالة وإبرازها للملإ العلمي من نسختين:

     الاُولى: نسخة مكتبة مدرسة الفيضية بمدينة قم المقدسة، وهي برقم 1982 بقلم نسخي في 55 ورقة، مجهولة التأريخ، وعلى صفحتها الاُولى عدّة تملكات منها باسم السيد علي الطباطبائي يقول فيه : (تصنيف جدّنا السيد محمد مهدي الطباطبائي، ولده السيد علي الطباطبائي) وهو علي بن محمد رضا الطباطبائي آل بحر العلوم (1224 ـ 1298هـ ) ويعدّ حفيد المصنف ومن أبرز فقهاء هذه الاُسرة الكريمة ، ومؤلف كتاب ( البرهان القاطع في شرح المختصر النافع ) وقد حصلنا على مصوّرة منها من صديقنا الفاضل السيد محمد علي بحر العلوم فشكراً له.

     الثانية: نسخة من مكتبة آل كاشف الغطاء في النجف الأشرف، وهي نسخة حديثة الكتابة بقلم نسخي في 44 ورقة، ويبدو أنّ النسخة بخطِّ العلاّمة السيد محمد صادق بحر العلوم ( 1315 ـ 1399هـ ) وكان رحمه الله يمتلك مكتبة مخطوطة نفيسة قد جمع فيها الأعلاق ، وكان قد استنسخ عشرات المخطوطات النادرة لنفسه بخطه وأودعها مكتبته، ونسختنا من تلك المجموعة المستنسخة بخطه وجاء في نهاية هذه النسخة:

     (هذا آخر ما وُجد بخط المرحوم المبرور، المستقر في دار الرحمة والسرور، العالم الرباني، والحبر الصمداني، آية الله في العالمين، السيد السند، والركن المعتمد، التقي النقي الألمعي اللوذعي، السيد مهدي الطباطبائي الملقّب ببحر العلوم، أعلى الله درجته في الجنان، وألبسه ثوب المغفرة والرضوان ـ وقد حرّر وسطّر امتثالاً لأمر العالم العلاّمة، والفاضل الحبر الفهامة، الكريم ابن الكريم ابن الكريم، والعالم ابن العالم ابن العالم، الذي فضائله لا تعدُّ ، وفواضله لا تُحصى، جناب الشيخ عباس نجل الأجل الأكرم الشيخ علي ، نجل شيخنا الأعظم الأكبر الشيخ جعفر النجفي ـ طاب ثراه ـ وقد وقع الفراغ منه يوم الأحد السادس من شهر الله الأصبّ رجب المرجّب من سنة 1295هـ  وأسأل الله العفو والغفران والحمد لله أولا وآخراً).

     وقد حصلنا على مصورة من هذه النسخة من الأقراص الكمبيوترية لمخطوطات النجف المشتهر باسم ( الذخائر ) شكر الله مساعي القائمين بهذا الجهد وجزاهم عن الإسلام خيراً.

مصادر المقدمة:

     مقدمة رجال بحر العلوم : الجزء الأوّل ، طبعة النجف الأشرف .

     أعيان الشيعة 10 : 160 ـ 159

     روضات الجنّات 7 : 204

     مكارم الآثار 2 : 216

     الكنى والألقاب 3 : 62

     ريحانة الأدب 1 : 234

     الأعلام للزركلي 7 : 113

     تنقيح المقال 1 : 156 و 3 : 261

     جنة المأوى : 236

     دانشنامه جهان اسلام 6 : 958

 

صور من النسخ الخطّية

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ، والصلاة على محمد وآله . اللّهم بك أستعين ، وبأصفيائك إليك أتوسل وأتشفّع

الكعبة الشريفة

     قال الشيخ قطب الدين الحنفي النهرواني ، ثم المكي المتوفى سنة 990 في تاريخه; تاريخ مكّة المشرفّة ، الذي سمّـاه بـ «الاعلام بأعلام بيت الله الحرام» ، وعمله للسلطان مراد1 بن السلطان سليم العثماني ، في الباب الثاني من الكتاب المذكور .

     قال قاضي القضاة ، السيد تقي الدين محمد بن احمد بن علي المكي الفاسي في كتابه «شفاء الغرام»:

     «لا شك أن الكعبة المعظمة بنيت مرات ، وقد اختلف في عدد بنائها ، ويتحصلُ من مجموع ما قيل في ذلك انها بنيت عشر مرات ، وهي بناء الملائكة ، وبناء آدم (عليه السلام) ، وبناء اولاده وبناء الخليل ابراهيم (عليه السلام) ، وبناء العمالقة ، وبناء جرهم ، وبناء قصي بن كلاب (جدّ النبي(صلى الله عليه وآله)) ، وبناء قريش (قبل بعث النبي(صلى الله عليه وآله) وعمره الشريف يومئذ خمس وعشرون سنة) وبناء عبدالله بن الزبير بن العوام الأسدي ، وآخرها بناء الحجاج بن يوسف الثقفي».2

     وفي إطلاق العبارة أنّه بناء الكعبة تجوز ، فإنّ بعضها لم يستوعبه البناء ، كالبناء الآخر وهو بناء الحجّاج ، فإنه إنّما هدّم جانب الميزاب فقط وأعاده ، وأبقى الجوانب الثلاث ، وهي جهة الباب ، وجهة المستجار (الذي هو مقابل الباب) وجهة الصفا (المقابل لجهة الميزاب) فإنها باقية على بناء ابن الزبير .

[البِناء الأوّل]

     وقال القطبي: أمّا البناء الأوّل فذكره الإمام أبو الوليد احمد بن عبدالله بن أحمد ابن الوليد في تاريخه قال: «حدّثنا علي بن مسلم العجلي عن ابيه، حدّثنا القاسم بن عبدالرحمن الأنصاري، حدّثنا الإمام محمد الباقر ، بن الإمام زين العابدين ، علي ابن الحسين ، بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنهم ، قال: «كنت مع أبي علي بن الحسين(عليهما السلام) بمكّة ، فبينا هو يطوف وأنا وراءه إذ جاءه رجل طويل فوضع يده على ظهر أبي ، فالتفت أبي إليه .

     فقال الرجل : السلام عليك يا ابن بنت رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، إني أريد أن أسالك .

     فرد(عليه السلام) ، وسكت أبي ، وأنا والرجل خلفه حتى فرغ من اسبوعه ، فدخل الحجر ، فقام تحت الميزاب ، فصلّى ركعتي اسبوعه ، ثم استوى قاعداً ، فالتفت اليّ فجلست إلى جانبه .

     فقال: يا محمد ، اين السائل؟

     فأومأت إلى الرجل ، فجاء فجلس بين يدي أبي.

     فقال له: عمّ تسأل؟

     قال: إني أسالك عن بدء هذا الطواف بهذا البيت .

     فقال له أبي: من أين انت؟

     قال: من أهل الشام .

     قال: أين سكنت؟3

     قال: بيت المقدس .

     قال: قرأت الكتابين ، يعني التوراة والإنجيل؟

     قال: نعم .

     قال له أبي : يا أخا العرب ، احفظ عنّي ، ولا تحفظ عني إلاّ حقاً . أمّا بدء هذا الطواف فإنّ الله تعالى قال للملائكة : {إني جاعلٌ في الأرضِ خليفة}،4 فقالت الملائكة أي رب أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ويتحاسدون ويتباغضون ويتباغون اجعل ذلك الخليفة5 منّا، فنحن لا نفسد فيها ولا نسفك الدماء، ولا نتحاسد، ولا نتباغى، ونحن نسبح بحمدك ونعظمك ولا نغضبك؟

     فقال الله تعالى: {إني اعلم ما لا تعلمون}.6

     قال: فظنت7 الملائكة أنّ ما قالوا رد على ربهم، وأنّه قد غضب عليهم من قولهم، فلاذوا بالعرش، ورفعوا ايديهم يتضرّعون ويبكون إشفاقاً من غضبه، فطافوا بالعرش ثلاث ساعات، فنظر الله تعالى إليهم، ونزلت الرَّحمة عليهم، ووضع الله سبحانه تحت العرش بيتاً هو البيت المعمور على اربع اساطين من زبرجد تغشاهنَّ ياقوتة حمراء .

     وقال للملائكة : طوفوا بهذا البيت .

     فطافت الملائكة بهذا البيت، وصار أهون عليهم من العرش .

     ثم إنّ الله تبارك وتعالى بعث ملائكة وقال لهم : اِبنوا لي بيتاً في الأرض بمثاله وقدره، وأمر الله تعالى مَن في الأرض مِن خلقه أن يطوفوا بهذا البيت، كما يطوف أهل السَّماء بالبيت المعمور.

     فقال الرجل : صدقت يا ابن بنت رسول الله، هكذا كان» انتهى.

     قلت: هذا الحديث الشريف يدل على أنّ بناء الملائكة للكعبة8 الشريفة كان قبل خلق الأرض، ولنا أحاديث دالة على أنّ الكعبة خُلِقَت قبل الأرض باربعين سنة.

     في رواية قال الإمام أبو عبدالله محمد بن اسحاق بن العباس الفاكهي المكّي في اوائل «تاريخ مكة» :

     حدّثني عبدالله بن أبي سلمة، قال حدثنا الواقدي، حدّثنا ابن جرير9، عن بُسر، عن عاصم الثقفي، عن سعيد بن المسيب :

     قال قال علي بن أبي طالب(عليه السلام) : «خلق الله تعالى البيت قبل الأرض والسماوات بأربعين سنة وكان غُشاءً على الماء».

     قال الفاكهي: وحدثني عبدالله بن أبي سلمة قال : حدّثنا النضر بن شميل، قال : حدّثنا ابن معشر، عن سعيد ونافع مولى آل الزبير، عن أبي هريرة، «قال: الكعبة خُلِقَت قبل الأرض بألفي عام.

     قيل: وكيف خلقت قبل الأرض وهي مِنَ الأرض؟

     فقال : لأنه كان عليها ملكان يسبحان بالليل والنهار الفي سنة، فلمّا أراد الله أن يخلق الأرض دحاها مِن تحتها فجعلها في وسط الأرضين».

     قال: وحدّثني عبدالله بن أبي سلمة، قال : حدثنا الواقدي، قال : حدّثنا أحمد ابن يحيى بن طلحة، أنه سمع مجاهداً يقول:

     «إنّ قواعد البيت خلقت قبل الأرض بألفي سنة، بسطت الأرضُ مِن تحته».

     أقول: وظهر مما رويناه أن موضع البيت الشريف خلق قبل الأرض، لا نفس بناء البيت، فإنّه أول مَن بنته الملائكة بحمد الله تعالى كما سقناه والله سبحانه وتعالى أعلم.

الثاني: بناء آدم(عليه السلام).

     وقد ذكره الإمام أبو الوليد الأزرقي قال: حدّثني جدّي، عن سعيد بن سالم ، عن طلحة بن عمرو الحضرمي، قال عطاء بن أبي رباح (بفتح الراء والموحّدَة، بعدها ألف ثم حاءٌ مهملة)، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لمّا اهبط اللهُ آدم إلى الأرض من الجَّنة، قال يا ربّ إنّي لا أسمع أصوات الملائكة!

     قال: خطيئتك10 يا آدم، ولكن اِذهب فابنِ لي بيتاً، فطف به واذكرني حوله، كنحوما رأيتَ الملائكة تصنع حول عرشي .

     قال: فأقبل آدم يتخطّى الأرض فطويت له، ولم يضع قدمه في شيء من الأرض إلاّ صار عمراناً وبركة، حتى انتهى إلى مكّة فبنى البيت الحرام، وأنّ جبرئيل ضرب بجناحه الصخرة فكشف عن اُسّ ثابت على الارض السابعة، فقذفت فيه الملائكة من الصخر مالا يطيق [حمل] الصخرة منها ثلاثون رجلا،11 وأنه بناه مِن خمسة أجبل، من لبنان ، وطور زيتا ، وطور سينا، والجوديّ ، وحِراء، حتّى استوى على وجه الأرض» . 12

     وهذا يدل على أنّ آدم(عليه السلام) إنما بنى أساس الكعبة حتى ساوى وجه الأرض، ولعلّ ذلك بعد دثور ما بنته الملائكة بأمر الله تعالى أولا.

     ثُمّ انزل الله تعالى البيت المعمور لآدم(عليه السلام) ليستأنس به، فوضعه على اساس الكعبة .

     ويدل على ذلك ما رواه أبو الوليد الأزرقي في تاريخه قال: حدّثني أبي، عن جدي، قال حدّثنا سالم، عن عثمان بن ساج، قال : بلغني أنّ عمر بن الخطاب قال لكعب، يا كعب أخبرني عن البيت الحرام.

     قال كعب: أنزل الله من السماء ياقوته مجّوفةً مع آدم(عليه السلام)، فقال : يا آدم إنّ هذا بيتي انزلته معك، يطاف حَوله كما يُطافُ حول عرشي، ويصلّى حوله كما يُصلى حول عرشي، ونزلت معه الملائكة فرفعوا قواعده من حجارة، ثم وضع البيت عليه، وكان آدم(عليه السلام) يطوف حوله كما يطاف حول العرش، ويصلّي عنده كما يُصلّى عند العرش، ولما أغرق الله قوم نوح رفعه إلى السماء وبقيت قواعده».13

     وقال الأزرقي أيضاً : حدّثني أبي، قال حدّثني مُحمد بن يحيى، عن عبدالعزيز ابن عمران، عن عمر بن ابي معروف، عن عبدالله بن أبي زياد، أنّه قال:

     «لمّا أهبط الله آدم(عليه السلام) من الجنة، قال يا آدم اِبن لي بيتاً بحذاء بيتي الذي في السماء تتعبّد فيه أنت وولدك، كما تتعبد ملائكتي حول عرشي فهبطت عليه الملائكة، فحفر حتى بلغ الأرض السابعة، فقذفت فيه الملائكة حتّى اشرف على وجه الأرض، وهبط آدم(عليه السلام) بياقوتة حمراء مجوّفة لها أربعة أركان بيض، فوضعها على الأساس، فلم تزل اليّاقوتة كذلك حتّى كان زمن الغرق، فرفعها الله تعـالى».14

     وقال الازرقي أيضاً : حدّثني محمد بن يحيى، عن ابراهيم بن محمد، عن أبي يحيى، عن أبي المليح، أنّه قال: «كان أبو هريرة يقول : حَجَّ آدم(عليه السلام) فقضى المناسك، فلمّا حَجَّ قال يا ربّ إنّ لكلّ عامل أجراً.

     قال الله تعالى: أمّا أنت يا آدم فقد غفرت لك، وامّا ذريتك فمن جاء منهم هذا البيت فباءَ بذنبه غفرت له.

     فاستقبلته الملائكة، فقالوا : برَّ حجك، يا آدم قد حججنا هذا البيت قبلك بالفي عام.

     قال: وما كنتم تقولون حوله؟

     قالوا: كنا نقول : (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاّ الله، والله اكبر).

     قال: فكان آدم(عليه السلام) إذا طاف يقول هذه الكلمات، وكان طواف آدم(عليه السلام) سبعة أسابيع بالليل، وخمسة بالنهار».15

     قال الأزرقي أيضاً: حدّثني محمد بن يحيى، قال حدّثني هشام بن عبدالرحمن، عن سليمان المخزومي، عن عبدالله بن أبي سليمان (مولى بني مخزوم) أنه قال: «طاف آدم(عليه السلام) سبعاً بالبيت، ثم صلّى تجاه باب الكعبة ركعتين، ثم أتى المُلتَزم وقال : إنّك تعلم سريرتي وعلانيتي فاقبل معذرتي، وتعلمُ ما في نفسي وما عندي فاغفر لي ذنوبي، وتعلم حاجتي فاعطني سؤلي، اللهم إنّي أسالك إيماناً تباشر به قلبي، ويقيناً صادقاً حتّى أعلم أنه لا يصيبني إلاّ ما كتبت لي، والرضا بما قضيت لي.

     قال: فأوحى الله تعالى إليه، يا آدم قد دعوتني بدعوات، فاستجبتُ لك، ولن يدعوني بها احد مِن ولدِك إلاّ كشفت همومه وغمومه، ونزعت الفقر من قلبه، وجعلتُ الغنى بين عينيه وتجرتُ له مِن وراء كل تاجر، وأتته الدنيا وهي راغمة وإن كان لا يريدها.

     قال: فمنذُ طاف آدمُ(عليه السلام) كانت سُنَّة الطّواف».16

الثالث: بناء أولاد آدم(عليه السلام)

     روى الازرقي بسنده إلى وَهب بن مُنبّه قال : لمّا رُفِعت الخيمة التي عزى الله بها آدم(عليه السلام) مِن حلية الجنة حين وُضِعَت له بمكة في موضع البيت، ومات آدم(عليه السلام)فبنوا [فبنى] بنو آدم(عليه السلام) من بعده مكانها بيتاً بالطّين والحجارة، فلم يزل معموراً يعمرونه هم ومن بعدهم حتّى كان زمن نوح(عليه السلام)، فنسفه الغرق، وغيّر مكانه حتّى بوّأ [بوِّئ ]لإبراهيم(عليه السلام)».17

     قال الحافظ أبو القاسم السّهيلي في الفصل الذي عقده لبنيان الكعبة :

     «وكان بناؤها الأول حين بنى شيثُ بن آدم(عليه السلام)» انتهى.

     ولعلّ مراد السُّهيلي بالأوليّة بالنسبة إلى بناء البشر لا الملائكة، وان بناء آدم(عليه السلام) هو الأساس إلى ان ساوى وجه الأرض، وانزل الله عليه من الجنة البيت المعمور، فوضعه على ذلك الأساس.

     والمراد بالخيمة المشار إليها في خبر وهب بن منبه، هو البيت المعمور، أو لعلها خيمة غير البيت المرفوع، لعلّها رفعت بعد وفاة آدم(عليه السلام)، واُبقي البيتُ المعمور إلى أن رُفِع زمان الطوفان، وفي ذلك من ارتكاب المجاز مما يصحح18 هذه الروايات المتباينة ظواهرها، والله أعلم.

     حكى السَّنجاري قال: «ذكر الفاسي أنّ أول مَن بوّبَ الكعبة أنوش بن شيث ابن آدم(عليه السلام)، وأنه ذكر عن الفاكهى أنّ أوّل مَن بوّبها وجعل لها غلقاً جُرهُم، والله اعلم»19 انتهى.

الرابع: بناء الخليل(عليه السلام)

     قال السَّيدُ الإمام الفاسي:

     «أمّا بناءُ الخليل(عليه السلام) فهو ثابت بالكتاب والسنة الشريفة، وهو أوّل مَن بنى البيت على ما ذكره الفاكهي عن علي بن أبي طالب(عليه السلام)».20

     وجزم الشيخ عماد الدين بن كثير في تفسيره قال: «لم يَرد عن معصوم أنّ البيت كان بيتاً قبل الخليل(عليه السلام)21 فهو ينكر ما قدمناه من الآثار .

     وأما على ما قدّمناه من الآثار، فبناء ابراهيم(عليه السلام) أوّل اسمي بالنسبة إلى مَن بنى بعده لا أوّل حقيقي والله أعلم.

     قال ابنُ ظهير [ابن ظهيرة]: «وجعل الخليل(عليه السلام) طول البيت في السماء تسعة أذرع، وعرضه في الأرض اثنين وثلاثين ذراعاً من الرُّكن الأسود إلى الركن الشامي (الذي فيه الحِجر)، وجعل عرض ما بين الركن الشامي إلى الركن الغربي اثنين وعشرين ذراعاً، وجعل طول ظهرها من الركن الغربي إلى الركن اليماني احداً وثلاثين ذراعاً، وجعل عرض شقها اليماني من الركن الأسود إلى الركن اليماني عشرين ذراعاً، فلذلك سُميت كعبة، لأنها على خِلقة الكعب، وكذلك بنيان أساس آدم(عليه السلام) وجعل بابها بالأرض غير مبوّب حتّى كان تُبع الحميري هو الذي جعل لها باباً وغلقاً فارسياً وجعل الخليل الحِجرَ (بالكسر) إلى جنب البيت عريشاً مِن أراك تقتحمه فكان زرباً لغنم اسماعيل، وحفر في بطن الكعبة جُبّاً على يمين الداخل يكون خزانة للبيت، وهو الذي نصب عليه عمرو بن اللّحي هُبَل (صنم قريش) ثم عدا على ذلك الجُبّ قوم مِن جُر هم فسرقوا ما فيه، فبعث الله الحيّةَ لحراسته، وهي التي اختطفها العقاب»22 نقل باختصاره.

     وروى الأزرقي في تاريخه عن ابن اسحاق: «أنّ ابراهيم(عليه السلام) لما بنى البيتَ جعل طوله في السَّماء تسعة أذرع، وجعل طوله في الأرض مِن قِبَل وجه البيت الشريف مِنَ الحجر الأسود إلى الركن اليماني اثنين وثلاثين ذراعاً، وجعل عرضه في الأرض من قبل الميزاب من الركن الشامي إلى الركن الغربي الذي يسمى الآن الركن العراقي اثنين وعشرين ذراعاً، وجعل طوله في الأرض من جانب ظهر البيت الشريف من الركن الغربي المذكور إلى الركن اليماني احدى وثلاثين ذراعاً، وجعل عرضه في الأرض من الركن اليماني إلى الحجر الأسود عشرين ذراعاً، وجعل الباب لاصقاً بالأرض، غير مرتفع عنها، ولا مبوباً، وجعل لها تبع الحميري باباً وغَلقاً بعد ذلك، وجعل ابراهيم (عليه السلام) في بطن البيت على يمين من دخله حفرة لتكون خزانة للبيت، يوضع فيها ما يُهدى إلى البيت، فكان إبراهيم(عليه السلام) يبني وإسماعيل(عليه السلام) ينقل له الأحجار على عاتقه، فلما ارتفع البُنيان قرّب له المقام، فكان يقوم عليه ويبني ويحوّله له اسماعيل(عليه السلام) ينقل له في نواحي البيت، حتّى انتهى إلى موضع الحجر الأسود .

     فقال ابراهيم(عليه السلام)لإسماعيل(عليه السلام) : يا اسماعيل إئتني بحجر أضعه هنا يكون علماً للناس يبتدئون منه الطواف . فذهب اسماعيل في طلبه، فجاء جبرئيل(عليه السلام) إلى سيّدنا ابراهيم(عليه السلام) بالحجر الأسود، وكان الله عزّوجلّ استودعه جبل أبي قُبيس حين كان طوفان نوح(عليه السلام)، فوضعه جبرئيل(عليه السلام)في مكانه، وبنى عليه ابراهيم(عليه السلام) وهو حينئذ يتلألأ نوراً، فأضاء بنوره شرقاً وغرباً وشاماً ويمناً إلى منتهى أنصاب الحرم في كلّ ناحية وإنّما سوّدته الجاهليّة وأرجاسها .

     قال : ولم يكن ابراهيم(عليه السلام) سَقَّف البيت ولا بناه بمَدَر، وإنّما رصّه رصّاً».23

     قال: وذكر سنده إلى عبدالله بن عمر [عمرو] «أنّ جبرئيل(عليه السلام) نزل بالحجر [من الجنّة] على ابراهيم(عليه السلام) من الجنة وأنّه وضعه حيثُ رأيتم، وانتم لا تزالون بخير ما دام بين ظهرانيكم فتمسّكوا به ما استطعتُم، فإنّه يوشك أن يجيء جبرئيل فيرجع به مِن حيثُ جاء به» انتهى.24

     وقال السيّدُ الإمام تقيّ الدين الفاسي : روينا عن قتادة قال: «ذَكَر لنا أنّ الخليل(عليه السلام) بنى البيت مِن خمسة اجبل : مِن طور سينا، وطور زيتا، ولبنان، والجودي وحراء .

     قيل وذكر لنا أنّ قواعده مِن حراء.

     قال: ويُروى أنّ الخليل أسّس البيت من ستة أجبل من أبي قبيس، ومن الطّور، ومِنَ القُدس، ومن ورقان، ومن رضوى، ومن أحد».25

     قال الازرقي: قال أبي، وحدّثني جدّي، عن سعيد بن سالم، عن ابن جُريح [جريج]، عن مُجاهد أنّه قال : «كان موضع الكعبة قد خفي ودرس زمن الطُّوفان فيما بين نوح وابراهيم(عليهما السلام) .

     قال : وكان موضعه أكمة حمراء [مدرة] لا تعلوها السيول غير أنّ الناس يعلمون أنّ موضع البيت هنالك، مِن غير تعيين محلّه، وكان يأتيه المظلوم والمتعوّذ مِن أقطار الأرض، ويدعو عنده المكروب، وما دعى [دعا] عنده أحد إلاّ استجيب له، وكان الناس يحجّون إلى موضع البيت، حتّى بوّأ الله سبحانه وتعالى [مكانه ]لإبراهيم(عليه السلام) لما أراد عمارة بيته، واظهار دينه وشعائره [شرائعه]، فلم يزل منذ أهبط الله سبحانه وتعالى آدم (عليه السلام) الى الأرض معظماً محترماً عند الأمم والملل».26

     وعن ابن عمر : «كان الأنبياء يحجّونه ولا يعلمون مكانه، حتّى بوأه الله لخليله واعلمه مكانه».

     وروى أنّ هوداً وصالحاً، ومَن آمن بهما، حجّوا البيت وهو كذلك.

     ونقل العلاّمة السيوطي في بعض كتبه : «أن جميع الأنبياء حجّوا البيت إلاّ هوداً وصالحاً، اشتغلا بأمر قومهما فلم يحجّا، وأنّ آدم لمّا حجَّ حَلَق جبرئيل(عليه السلام)رأسه بياقوتة من الجنّة، فلما بوّأ الله تعالى لخليله مكان البيت أقبل من الشَّام وله يومئذ مائة سنة، ولاسماعيل ستّ وثلاثون سنة، وأرسل الله معه السّكينة والصرد والمَلَك دليلا، حتى تبوّأ البيت الحرام .

     قال : والسّكينة لها رأسٌ كرأس الهرّة وجناحان.

     وفي رواية : كأنها غمامة أو ضبابة تغشى الأرض كالدخان، في وسطها كهيئة الرأس يتكلم، وكانت بمقدار البيت .

     فلمّا انتهى الخليلُ إلى مكّة وقعت في موضع البيت، ونادت يا ابراهيم ابنِ عليَّ مقدار ظِلّي، لا يزيد ولا ينقص.27

     وفي رواية : أنّها تطوقت بالأساس الأول كأنّها حيّة.

     وفي اُخرى أنّها لم تزل راكدة تُظِّلُ ابراهيم وتهديه مكان القواعد، فلّما رفع القواعد قدر قامة انكشفت.

     قال: وذكر أنّ الخليل لما حفر القواعد ابرز عن رَبَض كأمثال خلف الإبل، لا يُحرك الصَّخرةَ إلاّ ثلاثون رجلا، وكان يبني كلَّ يوم سافاً وهو المُدماك في عرفنا الآن .

     قال ابن عباس : أما والله ما بنياه بقصة (وهي النورة وشبهها) ولا مَدر، ولا كان معهما ما يسقِّفانه، ولكن أعلماه وطافا به.

     وفي رواية رخَّماهُ رَخماً .

     قال : وروي أنّ ذا القرنين قَدِم مكّة، والخليل وابنه يبنيان .

     فقال : ما هذا؟ فقالا : نحن عبدان اُمرنا بالبناء .

     فطلب منهما البرهان على ذلك، فشهد بذلك خمسة أكبش.

     ثم قال: قال السهيلي : بناه الخليل مِن خمسة أجبل، كانت الملائكة تأتيه بالحجارة منها وهي طور سينا، وطور زيتا (وهما بالشام) والجودي (وهو بالجزيرة) ولبنان وحِراء (هما بالحرم).

     قال المجدد : في كون لبنان بالحرم نظر، إذ لا يعرف ذلك .

     ثم ذكر القطب قصة مهاجرة الخليل بعد أن نجّاه الله مِن نار نمرود، وولادة اسماعيل واسحاق ، وإسكان الخليل واسماعيل وأمّه هاجر الحرم، وظهور ماء زمزم، وغير ذلك.

     ثم قال، رجوعاً إلى القصة قالوا : ومرت رفقة مِن جُرهُم يريدون الشام، فرأوا طيراً يحوم على جبل أبي قبيس .

     فقالوا : إنّ هذا الطير يحوم على ماء، فتبعوه فأشرفوا على بئر زمزم .

     فقالوا لهاجر : إن شئت نزلنا معك وأنسناكِ والماءُ مائكِ، نشرب منه؟

     فأذنت لهم، فنزلوا معها، وهم أول سكان مكة.

     وقال بعد ذلك: قال الأزرقي : ثم ولد لإسماعيل مِن زوجته بنت مضاض بن عمرو الجُرهمي اثنا عشر رجلا، منهم ثابت بن اسماعيل، وقيدار بن اسماعيل، وكان عمر اسماعيل مائة وثلاثين عاماً، ومات ودفن في الحِجر مع اُمّه، فولى البيت بعده ثابت بن اسماعيل، ونشر الله العرب من ثابت وقيدار، فكثروا ونموا، ثم توفي ثابت، ثم ولي البيت بعده جدّه لأمّه مضاض بن عمرو الجُرهمي، وضمَّ بني ثابت بن اسماعيل وصار ملكاً عليهم وعلى جُرهم، فنزلوا بقعيقعان بأعالي مكة، وكانوا اصحاب سلاح كثير، وتقعقع فيهم، وصارت العمالقة ـ وكانوا نازلين باسفل مكة ـ الى رجل منهم ولّوه ملكاً عليهم، يقال له السُّميدع، ونزلوا بأجياد وكانوا أصحاب خيل وغيره، وكان الأمرُ بمكّة لمضاض بن عمرو، ورث السميدع إلى أن حدث بينهم البغي، واقتتلوا فقُتِل السُّميدع، وتمّ الأمر لمضاض بن عمرو.

     قال: قال : ثمّ نشر الله بني اسماعيل وخئولتهم وجُرهم، وكانت جُرهم ولاة البيت لا ينازعهم بنو اسماعيل لقرابتهم، فلمّا ضاقت مكة انتشروا في الأرض، فلا يأتون قوماً ولا ينزلون بلداً إلاّ أظهرهم الله عليهم بدينهم، وهو يومئذ دينُ ابراهيم، حتّى ملأوا البلاد، ونفوا عنها العماليق، وكانت ولاة مكة، وكانوا ضيعوا حرمها، واستحلوها، واستخفوا بها، فاخرجهم الله مِن أرض الحرم.

     ثمّ إنّ جُرهماً استخفت بأمر البيت والحرم، فاعتزلهم مضاض بن عمرو وخرج ببني اسماعيل من مكة بجانب خزاعة، فاخرجت خزاعة جُرهماً من البلاد، ووليت امر مكة، وصاروا اهلها، فسألهم بنو اسماعيل السكنى معهم فأذنوا لهم، وسألهم في ذلك مضاض بن عمرو فأبت عليه خزاعة، وصارت خزاعة حجبة بيت الله، وولاة أمر مكة، وفيهم بنو اسماعيل لا يشاركونهم في شيء ولا يطلبونه، الى أن كبر شأن قُصي بن كلاب بن مرّة، واستولى على حجابة البيت وأمر مكة» .28

     وقد نقلنا هذا الفصل من القطبي، من ابتداء قصة جُرهم باختصار لا يَخِلُّ بشيء مما نحن بصدده.

     وقصي تصغيراً اسمه زيد، وإنّما لقب قصياً لأنه ابعد عن أهله ووطنه مع أمّه، لمّا تُوفي أبوه كلاب، وتزوَّجت أمّه بربيعة بن حزام، ورحل بها إلى الشّام، فلما كبر وقع بينه وبين آل ربيعة شرٌّ فعيّرُوه بالغُربة، فرجع إلى قومه بمكة وعليها خزاعة، وكبيرهم خليل بن خيبسة الخزاعي وهذه [هذا] البيت الشريف، فتزوّج ابنته، وهلك وصار مفتاح البيت لأبي غيشان، وكان سكران فأعوز الخمر، فباع مفتاح البيت بِزِقّ مِن خَمر! فاشتراه منه قُصي، وفي الأمثال «أخسرُ صفقةً مِن أبي غيشان» اختصر.

الخامس والسادس: بناء العمالقة وجُرهم:

     ذكر الأزرقي ذلك، وذكر بسنده إلى سيدنا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام)أنّه قال في خبر بناء جرهم للكعبة : ثم انهدم فبنته العمالقة، فبنته قبيلة مِن جرهم.29

     روى الفاكهي بسنده إلى سيدنا علي بن أبي طالب(عليه السلام)، وروى السيد التقي الفاسي قال السَّنجاري وذكر الفاكهي ما يقتضي أنّ بناء جُرهم قبل العمالقة، وفي هذا نظر، فإنّ العمالقة قبل جُرهم ولم يل اليها بعد جُرهم إلاّ خُزاعة ،30 انتهى.

     قلت: هذا يقتضي أنّ جُرهماً بَنَتِ البيت الشريف قبل العمالقة، والخبر الأول يقتضي أنّ العمالقة بنته قبل جُرهم، وبه جَزَم المحبُّ الطبري .

     وروى المسعودي في «مروج الذهب»:

     «إنّ الذي بنى الكعبة مِن جُرهم، هو الحارث بن مضاض الأصغر، وأنّه زاد في بناء البيت، وردمه كما كان على بناء ابراهيم(عليه السلام)، والله اعلم بحقيقة الحال».31

     وروى الأزرقي شيئاً من خبر العمالقة يقتضي سبقهم على جُرهم فانه روى بسنده إلى سيدنا عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أنّه قال : «كان عليه حي يقال لهم العماليق، كانوا في عِزٍّ وثروة، وكانت لهم خيل وإبل وماشية ترعى حول مكة، وكانت العضاه ملتَّفة، والأرض مبتلة، وكانوا في عيش رخيٍّ، فبغوا في الأرض، وأسرفوا على انفسهم، وأظهروا المظالم والإلحاد، وتركوا شكر الله، فسُلِبوا نعمتهم، وكانوا يكرون بمكة الظِّل، ويبيعون الماء، فاخرجهم الله مِن مكة وسلّط عليهم الَّنمل حتّى خرجوا من الحرم، ثم ساقهم بالجَدب حتى الحقهم الله بمساقط رؤوس آبائهم ببلاد اليمن، فتفرقوا وهلكوا، وأبدل الله بعدهم بجُرهم، فكانوا سكّانه إلى أن بغوا فيه ايضاً، فاهلِكوا جميعاً»32 انتهى.

السابع: بناء قصي

     ذكر الزبير بن بكّار (قاضي مكّة) في كتاب «النَّسب» : «أنّ قُصي بن كلاب لما ولى امر البيت، جمع نفقته ثمّ هدَّم الكعبة، فبناها بنياناً لم يبنه ممَّن بناها قبله مكة» ذكر أبو عبدالله محمّد بن عابد الدمشقي في «مغازيه» :

     أنّ قصي بن كلاب بنى البيت الشريف»33

     وجزم به الإمام الماوردي في «الأحكام السلطانية» فانه قال فيها:

     «أوّل مَن جدّد بناء الكعبة مِن قريش بعد ابراهيم(عليه السلام)، قُصي بن كلاب، وسقَّفها بخشب الدوم وجريد النخل»34 انتهى.

     قال السيد التقي الفاسي في «شفاء الغرام»، ورواه القاضي الزبير بن بكّار .

     «أنّ قُصيّاً بنى الكعبة على خمس وعشرين ذراعاً» .35

     ففيه نظرٌ لما اشتهر في الأحكام أنّ ابراهيم الخليل(عليه السلام) بنى طول الكعبة تسعة اذرع، وأنّ قريشاً لما بنت الكعبة زادت في طولها تسعة اذرع، وأنّ قصياً أراد أن يجعل عرضها خمسة وعشرون [عشرين] ذراعاً، فالمعروف أنّ عرضها من الجهة الشرقية والغربية لا ينقص عن ثلاثين ذراعاً في بناء الخليل(عليه السلام)، بل يزيد (على خلاف في مقدار الزيادة) وإن أراد عرضها من الشاميّة واليمانية، فعرضها في هاتين الجهتين ينقص عن خمسة وعشرون [ين] ذراعاً، ثلاثة أذرع أو أزيد، وكلُّ مَن بنى الكعبة بعد ابراهيم(عليه السلام)لم يبنها إلاّ على قواعد ابراهيم(عليه السلام)، غير أنّ قريشاً اقتصرت من عرضها في جهة الحجر الشريف لأمر اقتضاه الحال، وكان ما فعله الحجاج بعد ابن الزبير عناداً له، والله تعالى أعلم.

الثامن: بناء قريش:

     قال خاتمة الحُفّاظ والمحدِّثين مولانا الشيخ محمد الصالحي في كتابه «سبيل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد»، وهو أحسنُ كتاب للمتأخرين، وأبسطه في السيرة النبوية ولنا به إجازة عامة .

     «إنّ أمرأة جمَّرت الكعبة بالبخور، فطارت شرارة من مجمرها في ثياب الكعبة، فاحترق أكثر أخشابها، ودخلها سيل عظيم فصدَّع جدرانها بعد توهينها، فأرادوا أن يشدّوا بنيانها، ويرفعوا بابها حتّى لا يدخلها إلاّ قريش، وهم في ذلك إذ رمى البحر بسفينة إلى ساحل جِدّة لتاجر روميّ اسمه باقُوم (بموحدة وقاف مضمومة)، وكان نجّاراً بنّاءً، فخرج الوليد بن المغيرة في نفر من قريش إلى جِدة فابتاعوا خشب السفينة، وكلموا باقوم الرّومي أن يتقدم معهم إلى مكة، فقدموا إليها، واخذوا أخشاب السفينة أعدُّوها لسقف الكعبة».36

     قال الاسنويّ: «كانت هذه السفينة لقيصر ملك الروم يحمل فيها الرخام والخشب والحديد مع باقوم إلى البقعة التي احرقها الذين بالحبشة، فلمّا بلغت قريش مِن مرسى جِدّة بعث الله عليها ريحاً فحطّمها» انتهى.

     قلت: لا يعرف طريق بين بحر الروم والحبشة يحرفها إلى جِدّة، إلاّ ان يكون ملك الروم طلب ذلك مِن ملك مصر، فجهَّزها له مِن بندر السويس أو الطور أو نحو ذلك.

     قال ابنُ اسحاق: «وكان بمكة قبطي يعرف نجر الخشب وتسويته، فواثقهم على ان يعمل لهم سقف الكعبة، ويساعده باقُوم .

     وقال : وكانت حيّةٌ عظيمة تخرج مِن بئر الكعبة تُشرف على جدار الكعبة، لا يدنو منها أحد إلاّ كشت وفتحت فاها، وكانوا يهابونها ويزعمون أنّها لحفظ الكعبة وهداياها، وأنّ رأسها كرأس الجَدي، وظهرها وبطنها أسود، وأنّها أقامت فيها خمسمائة سنة!

     قال ابن عتبة : فبعث الله طائراً فاختطفها وذهب بها .

     فقالت قريش : نرجو أن يكون الله تعالى رضى لنا بما أردنا فعله، فاجمع رأيهم على هدمها وبنائها.

     قال هشام: فتقدم عائذ بن عمران بن مخزوم (وهو خالُ أبي النبي(صلى الله عليه وآله)) فتناول حجراً من الكعبة فوثب مِن يده حتى رجع إلى مكانه .

     فقال : يا معشر قريش، لا تدخلوا في بنيانها إلاّ حلالا طيباً، ليس فيه مهر بغي، ولا رباً، ولا مظلمة.37

     ثمّ إنّ قريشاً اقتسموا جوانب البيت فكان شِقُّ الباب لبني زُهرة وبني عبدمناف، وما بين الرّكن الأسود والركن اليماني لبني مخزوم، ومن انضّم إليهم من قريش، وكان ظهر الكعبة لبني جمح وبني سهم، وكان شق الحجر لبني عبدالدار وبني اسد بن عبدالعزى وبني عدي بن كعب، وجمعوا الحجارة، وكان رسول الله(صلى الله عليه وآله)ينقل معهم، حتّى إذا انتهى الهدم إلى الأساس، فأفضوا إلى حجارة خُضر كالأسمنة، فضربوا عليها بالمعول، فخرج برق كاد أن يخطف البصر، فانتهوا عند ذلك الأساس، ثمّ بنوها حتّى بلغ البنيان موضع الركن، فاختصم فيه القبائل، كلُّ قبيلة تُريدُ أن ترفعه إلى موضعه، وكادوا أن يقتتلوا .

     فقال لهم أبو أميّة، بن المغيرة، بن عبدالله، بن عمرو، بن مخزوم (وكان شريفاً مطاعاً) : اجعلوا الحكم بينكم فيما اختلفتم اول من يدخل من باب الصفا .

     فقبلوا منه ذلك، وكان أوّل داخل رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فلّما رأوه قالوا : هذا محمّد الأمين، وكان يسمّى قبل أن يوحى إليه أميناً لأمانته وصدقه.

     فقال(صلى الله عليه وآله): هلم الي ثوباً .

     فاُتي به، فأخذ الركن فوضعه بيده فيه .

     ثمّ قال : ليأخذ كبير كل قبيلة بطرف مِن هذا الثوب .

     فحملوه جميعاً وأتوا به، ورفعوه إلى ما يُحاذي موضعه، فتناوله رسول الله(صلى الله عليه وآله)مِنَ الثوب ووضعه بيده الشريفة في محلـه .38

     وفي ذلك يقول هبيرة بن أبيوهب المخزومي في شعر:

تشاجرت الأحياء في فصل خطة

جرت بينهم بالنحس من بعد أسعد

تلاقوا بها بالبغض بعد مودة

وأوقد ناراً بينهم شرّ موقد

فلما رأينا الأمر قد جدّ جده

ولم يبق شيء غير سل المهند

رضينا وقلنا العدل اول طالع

يجيء من البطحاء من غير موعد

ففاجأنا هذا الأمين محمد

فقلنا رضينا بالأمين محمد

بخير قريش كلّها أسّ شيمة

وفي اليوم مهما يحدث الله في غد

فجاء بامر لم ير الناس مثله

اعم وارضى في العواقب والبدء

اخذنا باطراف الردا وكلنا

له حصة من رفعها قبضة اليد

فقال ارفعوا حتى إذا ما علت به

اكفهم وافى به خير سيد

وكل رضينا فعله وصنيعه

اكرم به من رأي هاد ومهتدى

وتلك يد منه علينا عظيمة

نروح بها هذا الزمان ونغتدي

     ولمّا بنت قريش الكعبة علت ارتفاعها مِن خارجها ثمانية عشر ذراعاً، منها تسعة اذرع زائدة على ما عمّره الخليل(عليه السلام) ونقصوا من عرضها أذرعاً من جهة الحجر لقصر النفقة الحلال التي أعدّوها لعمارة الكعبة، ورفعوا بابها من الأرض ليدخلوا من شاءُوا ويمنعوا من شاءُوا، وجعلوا في داخلها سِت دعائم في صفّين، ثلاث مِن كل صف مِن شِق الحِجر إلى الشِق اليماني، وجعلوا في ركنها الشامي مِن داخلها درجة يصعد منها إلى سطح الكعبة.39

     قال ابن ظهيرة: «إنّ قريشاً رفعت الكعبة ثمانية عشر ذراعاً، وقيل عشرين».

     قال: «وفي رواية أنّ طول الكعبة كان سبعة وعشرين ذراعاً، فاقتصرت قُريش منهاعلى ثمانية عشر ذراعاً، ونقصوا مِن عرضها أذرعاً أدخلوها في الحِجر».

     أخرجها الأزرقي في تاريخه قال : «وهو مناقضٌ لما ذكره في بناء ابن الزبير أنّه زاد على قريش بتسعة أذرع، كما زادت قريش على بناء الخليل بتسع، وهذا هو المشهور في التواريخ».

     قال: ولم يصح ان احداً بناها بعد الخليل، ولو صح فلم يصح أنّه جَعَل طولها سبعة وعشرين ذراعاً، وما تقدّم مِن بناء العمالقة وجُرهم وقصي بعد الخليل فإنّما هو مجرد خبر، وهو إن صحَّ فلم يذكر الأزرقي ولا غيره قدر ارتفاع بنائهم .

     نعم، نقل الفاسي عن الزبير بن بكّار أنّ قصيّاً بنى الكعبة بناءً محكماً على خمس وعشرين ذراعاً، وهو مع مخالفته لما ذكره المشهور في بنائها، لا يصح به هذه الرواية المتَّضمنّة لبنائها على سبعة وعشرين ذراعاً، فما ذكره الأزرقي مجرد رواية لا تعضد بشيء، فلا تعويل عليها» نقل باختصار.

     تنبيه: اختلِف في سن رسول الله(صلى الله عليه وآله) حين بنت قريشٌ الكعبة .

     فقيل : كان ابن خمس وثلاثين سنة، وهو أشهر الأقوال.

     وروى مجاهد : أن ذلك قبل المبعث خمسة عشر عاماً .

     والذي جزم به ابن اسحاق أنّه كان قبل المبعث بخمس سنين، الله اعلم.40

     قال ابن ظهيرة: اختلف في سنه(صلى الله عليه وآله) إذ ذاك، فقيل إنّه خمس وثلاثون سنة، وهو الأظهر، وقيل خمس وعشرون وهو مشهور».

     وعن الفاكهيّ «قد ناهز الحُلُم .

     وفي تاريخ الأزرقي ما يؤيده،41 وهو بعيدٌ جداً.

التاسع: بناء عبدالله بن الزبير في زمن الإسلام.

     وسيأتي في تفصيل ذكره وما وقع له في الباب الثالث.

العاشر: بناء الحجاج بن يوسف الثقفي بعد بناء عبدالله بن الزبير.

     وسيأتي بيانه عقب ذكرنا بناء ابن الزبير، وبناء الحجّاج، وهو جهة الميزاب والحِجر (بسكون الجيم) وتعلية جوف الكعبة، ورفع الباب الشريف في لصق الملتزم، وسد الباب الغربي، الذي يلصق المستجار لا غير، وما عدا ذلك في الجهات الثلاث، وهو وجه الكعبة الشريفة، وجهة ظهرها، وما بين الركن اليماني والحِجر، فهو بناء عبدالله بن الزبير باق إلى الآن كما سنذكره في زيادة ابن الزبير في المسجد الحرام، وهدم الكعبة وبنائها على قواعد ابراهيم(عليه السلام) . انتهى.

     ثمّ إنّ القطب ذكر في الباب الموعود به : «أنّ عبدالله بن الزبير كان ممن امتنع مِن بيعة يزيد بن معاوية وفرَّ إلى مكة، وأطاعه أهلُ الحجاز واليمن والعراق وأنّ يزيد أرسل عليه عسكراً جهّزه، وعليهم حُصين بن نُمير فالتجأ ابن الزّبير إلى المسجد الحرام، فنصب عليه الحُصين المجانيق وأصاب بعض حجارته الكعبة الشريفة، فانهدم بعض جدرانها، ثم احترق بعض اخشابها وكسوتها، وانهزم الحُصين بعسكره لهلاك يزيد وبلوغه خبر نعيه، فرأى عبدالله بن الزبير ان يهدم الكعبة ويحكم بناءها ويبنيها على قواعد ابراهيم(عليه السلام)، لِما سمع مِن حديث عائشة أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال لها : «يا عائشة لولا أنّ قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة وألصقتها بالأرض، وجعلت لها باباً شرقاً وباباً غرباً، وزدت فيها ستة اذرع من الحجر، فانَّ قريشاً استقصرتها حين بنت الكعبة، فإن بدا لقومك بعدي ان يبنوه فهلمّي لأريك ما تركوه، فأراها قريباً مِن سبعة أذرع» .

     أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، وهو رواية عن مسلم، عن عطاء.42

     قال: قال ابن الزبير : إنّي سمعت عائشة تقول : إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال: «لولا أنّ قومك حديث عهد بكفر، وليس عندي ما يقوى على بنائه، لكنت أدخلتُ فيه مِنَ الحِجر خمسة اذرع» انتهى.

     فاستشار عبدُالله بن الزبير من بقي من الصحابة، فكان فيهم مَن أبى، ومنهم مَن وافقه، فصمّم على ذلك، وأقدم عليه وهَدّم الكعبة.

     قال الإمام عبدالله بن أسعد اليافعي في تاريخه «مِرآتُ [مرآة] الجِنان»:

     إنّ ابن الزبير لما اكمل هدم الكعبة، كشف عن أساس ابراهيم(عليه السلام)، فوجد الحِجر داخل البيت، فبنى البيت على ذلك الأساس، وأدخل الحِجر في البيت، وألصق باب الكعبة الأرض ليدخُلَ الناسُ منه، وفتح له باباً غرباً في مقابلة هذا الباب ليخرج الناس منه، كما كان عليه لما جددت قريش الكعبة قبل بعثته(صلى الله عليه وآله)، وحضره النبي(صلى الله عليه وآله)وعمره الشريف يومئذ خمسٌ وعشرون سنة، وكانت النفقة قصرت بقريش لما بنوا الكعبة يومئذ، فاخرجوا الحِجر من البيت، وجعلوا عليه حائطاً قصيراً علامة على أنه من الكعبة، فأعادها ابن الزبير كما كانت زمن الجاهلية، وبنى على قواعد ابراهيم(عليه السلام)، فكان طول الكعبة قبل قريش تسعة اذرع، فزادت قريش عليه تسعة اذرع، فلما بناها ابن الزبير كان طولها ثمانية عشر ذراعاً، فرآها عريضة لا طول لها، فزاد في طولها تسعة اذرع، فكان لها في السماء سبعة وعشرين [عشرون] ذراعاً، فلّما فرِغ من بنائها طيَّبها بالمِسك والعنبر، وكساها بالديباج، وبقيت من الحجارة بقية فرشها حول البيت نحواً من عشرة أذرع، وكان فراغه مِن عمارة البيت الشريف سابع عشر شهر رجب سنة 64 مِنَ الهجرة»43 انتهى .

     ثمّ إنّ عبدالملك بن مروان لمّا ولى الخلافة جهز جيشاً كثيفاً على ابن الزبير، وأمَّر عليهم الحَجّاج بن يوسف الثقفي فحاصره ورمى عليه بالمنجنيق، وخذل ابن الزبير أصحابه فخرج وحده وقاتل قتالا شديداً إلى أن قتل سنة 73 من الهجرة .

     وفي سنة 74 من الهجرة كتب الحجاج إلى عبدالملك بن مروان يذكر له أنّ عبدالله بن الزبير زاد في الكعبة ما ليس فيها، واحدث باباً آخر، فكتب إليه عبدالملك بن مروان، أعِدها على ما كانت في عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فهدم الحجاج مِن جانبها الشامي قدر ستة أذرع وشبراً وبنى الجدار على أساس قريش، ولبَّس أرضها بالحجارة التي فضلت، ورَفع الباب الشرقي وسدّ الباب الغربي وترك سائرها لم يُغيّر منها شيئاً .

     ثمّ إنّ عبدالملك لمّا حجَّ ذلك العام وسمع حديث عائشة من الحارث بن عبدالله المخزومي ندم على ذلك، فجعل ينكث بقضيبه في الأرض ساعةً طويلةً منكساً، وقال : وددتُّ والله أنّي تركت ابن الزبير وما تحمل من ذلك، كذا ذكره النجم عمر بن فهد.44

     انتهى ما أردنا نقله مِن تاريخ القطب في هذا الموضوع، وفي النقل اختصار، ومخالفة في بعض المواضع لترتب النقل في الأصل على وجه لم يتغير به شيء من المعنى.

     وقال الشيخ جمال الدين ، محمد جار الله بن محمد نور الدين بن أبي بكر بن علي بن ظهيرة القرشي المخزومي في تاريخه الذي سماه بـ «الجامع اللطيف في فضل مكة وأهلها والبيت الشريف» وقد انتهى تاريخه بعام خمسين وتسعمائة، قال في الباب الثالث مِن تاريخه فيما يتعلق ببناء الكعبة الشريفة: «اعلم أنّ الكعبة ـ زادها الله شرفاً ـ بُنيت مرات، قال في «منهاج المتائين» بنيت خمس مرات : بناء الملائكة وقيل آدم(عليه السلام)، بناء الخليل(عليه السلام)، بناء قريش، بناء عبدالله بن الزبير، بناء الحجّاج.

     وقد قيل : إنها بُنيت مرتين اُخرتين [أخريين]، بناء العمالقة بعد ابراهيم(عليه السلام)، ثم بنته قريش والله اعلم» انتهى.

     ثم نَقَل عن الفاسي بناءها عشر مرات، كما مر حكايته عن القطب.

     ثم قال: «وفي منسك الجَدّ أنّها بُنيت خمس مرات، بناء الملائكة، بناء آدم(عليه السلام)، بناء ابراهيم(عليه السلام)، بناء قريش، بناء ابن الزبير، ثم هدم الحجّاج بعضه وبناه.

     قال: وفي «الروض الانف» للسهيلي: «إنّ أول مَن بنى الكعبة شيث بن آدم(عليه السلام)، وذكر في موضع آخر أنّ الملائكة هي التي أسّست الكعبة».

     وذكر القاضي تقيّ الدين أيضاً أنه وجد بخط عبدالله المرجاني : أنّ عبدالمطلب جَدّ النبي(صلى الله عليه وآله) بنى الكعبة بعد قُصي بن كلاب، وقبل بناء قريش .

     ثم قال : ولا أعلم له سلفاً ولا خلفاً، والله أعلم.

     ثم حكى عن الفاكهي روايته عن عليٍّ(عليه السلام) أنّ أول من بنى الكعبة الخليل(عليه السلام)، وأنّ ابن كثير جزم بذلك في تفسيره قال : وقال (أي ابن كثير في تاريخه) عند قوله تعالى: {إنّ أول بيت وضع للناس} أنه تعالى يذكر عن خليله انه بنى البيت العتيق الذي هو أول مسجد وضع لعموم الناس يعبدون الله فيه، وبوّاه مكانه، أي أرشده إليه، ودلّه عليه.

     ثم قال ابن كثير : ومن تمسّك في هذا بقوله تعالى : «مكان البيت» فليس بناهض ولا ظاهر; لأن المراد مكانه الكائن في علم الله المعظم عند الأنبياء موضعه من لدى آدم إلى زمن ابراهيم(عليه السلام)، وقد ذكر أنّ آدم نصب عليه قبة، وأنّ الملائكة قالوا له : قد طفنا قبلك بهذا البيت، وأنّ السفينة طافت به اربعين يوماً أو نحو ذلك، وكلّ هذه اخبار عن بني اسرائيل وهي لا تصدق ولا تكذب» انتهى.

     قال ابن ظهيرة : أقول : فعلى هذا يكون بناء البيت ثلاث مرات:

     الأول: بناء الخليل(عليه السلام).

     الثاني: بناء قريش.

     الثالث: بناء ابن الزبير والحجاج .

     لأن بناء الخليل ثابت بنص الكتاب، وبناء قريش ثابت في صحيح البخاري وغيره، وبناء ابن الزبير والحجاج ذكره عامة المفسرين وأهل التواريخ وغيرهم من العلماء.

     ويحتمل أن يقال إنّها بنيت أربع مراتٍ :

     [الأول :] بناء الملائكة وآدم(عليه السلام) معاً في آن واحد .

     ويشهد له ما حكي عن ابن عباس في سبب بناء آدم، وهو مجرد تأسيس.

     الثاني والثالث: بناء الخليل(عليه السلام) وبناء قريش.

     الرابع: بناء ابن الزبير والحجاج.

     فيكون البناء الأول والرابع مشتركاً.

     ثم على القول بأنّ بناء الملائكة وبناء آدم في وقتين فهو تأسيس أيضاً، كما ذكره الفاسي في «شفاء الغرام» لا بناء مرتفع كغيره من الأبنية، لأنّه حينئذ يحتاج إلى معرفة السبب في نقض الملائكة بناء آدم، أو نقض آدم بناء الملائكة، ولم أرَ أحداً ذكر ذلك فيما وقفت عليه، ولا تَعرَّض لمقدار ارتفاع بناء الملائكة وآدم في السماء، فيُحتمل ألاّ يكون هناك ارتفاع، أو يكون وهدم بتتابع القرون، فبُني ثانياً على ما وجد مِنَ الأساس.

     قال: «وأما سبب بناء ابن الزبير، فهو أنّ الحصين بن نُمير لما قدم مكة، ومعه الجيش مِن قبل يزيد بن معاوية لقتال ابن الزبير، جمع ابن الزبير أصحابه، فتحصَّن بهم في المسجد الحرام حول الكعبة، ونصب خياماً يستظلون فيها من الشمس، وكان الحصين قد نصب المنجنيق على أخشَبَي مكة، وهما أبو قُبيس والآخر الذي يقابله، وصار يرمي به على ابن الزبير وأصحابه، فتصيب الأحجار الكعبة، فوهنت لذلك، وتخرقت كسوتها عليها، وصارت كأنها جيوب النساء .

     ثم إنّ رجلاً مِن أصحاب ابن الزبير أوقَد ناراً في بعض تلك الخيام مما يلي الصفا، بين الركن الأسود واليماني، والمسجد يومئذ صغير، وكانت في ذلك اليوم رياح شديدة، والكعبة إذ ذاك مبنيّة بناء قريش مدماك من ساج، ومدماك من حجارة، فطارت الريح بشرارة مِن تلك النار فتعلقت بكسوة الكعبة، فاحترقت واحترق الساج الذي بين البناء، فازداد تصدع البيت، وضعف جدرانه، وتصدع الحجر الأسود أيضاً، حتّى ربطه ابن الزبير بعد ذلك بالفضة، ففزع لذلك أهل مكة واهل الشام الحصين وجماعته.

     وعن الفاكهي : أنّ سبب حريق البيت، إنّما كان من بعض أهل الشام أحرق على باب بني جُمَح، وهو باب الصفا، وفي المسجد يومئذ خيام، فمشى الحريق حتّى أخذ في البيت فظن الفريقان أنّهم هالكون.

     قال الجدّ: قلت : وهذا يخالف ما ذُكِر أن السبب في ذلك بعض اصحاب ابن الزبير، ولعل ما ذكره الفاكهي أصوب، على أنّه يمكن الجمع بوقوع كل من ذلك فيكون السبب مركباً» انتهى.

     ثم جاء نعيُ يزيد بعد ذلك بتسعة وعشرين يوماً، والحصين مستمر على حصار ابن الزبير، فارسل ابن الزبير إلى الحصين جماعة من قريش، فكلموه وعظموا عليه ما أصاب الكعبة .

     وقالوا له : إنّ هذا مِن رميكم لها . فانكر ذلك ثم ولّى راجعاً إلى الشام . فدعا ابن الزبير حينئذ وجوه الناس، واستشارهم في هدم الكعبة، فأشار عليه القليل من الناس بذلك، وأبى الكثير، وكان أشدهم عبدالله بن عباس .

     وقال : دعها على ما أقرها رسول الله(صلى الله عليه وآله) فإنّي أخشى أن يأتي بعدك مَن يُهدِّمها، فلا تزال تهدم وتُبنى فيتهاون الناس بحرمتها، ولكن ارقعها .

     فقال ابن الزبير ما يرضى أحدكم أن يرقع بيت أبيه وأمه، فكيف أرقع بيت  الله؟!

     واستقر رأيه على هدمها رجاء أن يكون هو الذي يردُّها على قواعد الخليل(عليه السلام)لقوله(صلى الله عليه وآله)لعائشة «لولا قومك حديثو عهد بكفر وفي رواية «حديث عهد بكفر لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين».45

     ثم إنّ ابن الزبير أمر بهدم الكعبة، وكان ذلك سنة أربع وستين من الهجرة، يوم السبت النصف مِن جمادى الآخرة، أخرجه الأزرقي .

     وقيل : سنة خمس وستين، فلم يجتر أحدٌ على ذلك، وخرج عبدالله بن عباس إلى الطائف، فلما رأى ذلك ابن الزبير علاها بنفسه وأخَذَ المِعوَل وجعل يُهدِّمها، فلما رأى أنه لم يصبه شيء صعدوا معه، وهدَّموا وأرقى ابن الزبير عبيداً مِن الحبش يُهدِّمونها رجاء أن يكون فيهم صفة الحبشي الذي قال فيه(صلى الله عليه وآله) : «يُخرِّبُ الكعبة ذو السويقتين من الحبشة».46

     الهوامش :

(1) هو السلطان مراد بن السلطان سليم بن السلطان سليمان بن السلطان سليم بن السلطان بايزيد بن السلطان محمّد بن السلطان مراد بن السلطان محمّد بن السلطان يلدرم بايزيد بن السلطان مراد اورخان بن السلطان عثمان . هكذا نسبه القُطبي في تاريخه [منه قدّس سره] .

(2) شفاء الغرام 1 : 91 .

(3) في النسخة الثانية : أينَ سكنك .

(4) سورة البقرة: 30 .

(5) في النسخة الثانية: الخِلقة.

(6) سورة البقرة: 35.

(7) في النسخة الثانية: فقالت.

(8) في النسخة الثانية: الكعبة.

(9) في النسخة الثانية: جريج.

(10) في النسختين: بخطيئتك.

(11) ذكر ابن ظهيرة بعد قوله ثلاثون رجلاً:

قال ابن عباس «فكان أوّل من أسّس البيت وصلى فيه وطاف به آدم، ولم يزل كذلك حتى بعث الله الطوفان فدرس مواضع البيت.

ثم قال : اقول هذا ما يشهد بأن بناء الملائكة وبناء آدم(عليه السلام) بناء واحد» انتهى.

(12) أخبار مكة 1 : 36.

(13) أخبار مكة 1 : 40.

(14) أخبار مكة 1 : 43.

(15) أخبار مكة 1 : 44.

(16) أخبار مكة 1 : 44.

(17) أخبار مكة 1 : 51.

(18) في النسخة الثانية: مما يصح به.

(19) شفاء الغرام 1 : 90 الباب السابع.

(20) شفاء الغرام 1 : 91 أخبار عمارة الكعبة المعظمة.

(21) شفاء الغرام 1 : 92.

(22) شفاء الغرام 1 : 91.

(23) أخبار مكة 1 : 66 ـ 65.

(24) أخبار مكة 1 : 63.

(25) شفاء الغرام 1 : 91 الباب السابع.

(26) أخبار مكة 1 : 54 ـ 53.

(27) أخبار مكة 1 : 61 ـ 60.

(28) أخبار مكة 1 : 84 ـ 83.

(29) أخبار مكة 1 : 62 ـ 61.

(30) شفاء الغرام 1 : الباب السابع.

(31) مروج الذهب 2 : 23 ـ 22، اخبار مكة 1 : 82.

(32) أخبار مكة 1 : 89.

(33) شفاء الغرام 1 : 92 الباب السابع.

(34) شفاء الغرام 1 : 92 ، الباب السابع.

(35) شفاء الغرام 1 : 92 الباب السابع.

(36) أخبار مكة 1 : 160.

(37) سيرة ابن اسحاق: 104، سيرة ابن هشام 1 : 205، اخبار مكة 1 : 161.

(38) سيرة ابن اسحاق: 108 ـ 107، سيرة ابن هشام 1 : 206، اخبار مكة 1 : 164.

(39) أخبار مكة 1 : 164.

(40) شفاء الغرام 1 : 95.

(41) أخبار مكة 1 : 164.

(42) كنز العمال 12 : 222.

(43) شفاء الغرام 1 : 97.

(44) شفاء الغرام 1 : 100.

(45) كنز العمال 12 : 222.

(46) كنز العمال 14 : 221.